[size=24]السيادة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي:
لقد كان الفكر السياسي المعاصر واعياً بالفرق الجذري بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فالقائلون بأن السيادة لله أو السيادة للأمة أو السيادة مزدوجة كانوا واعين بأن هذه السيادة – أياً كانت - تختلف جذرياً عن السيادة في الفكر الغربي؛ لأنها سيادة مقيدة ليست مطلقة، وسيادة تستمد شرعيتها من الشريعة وليست سامية ومستقلة عنها، لهذا عقدوا المقارنة بين مفهوم السيادة في الفكر الغربي ومفهومها في الفكر الإسلامي، فأظهروا الفروق الجذرية التي تكشف اختلاف السيادة في المنظومتين:
1- مصدر السيادة (فمصدر السيادة في العقيدة هو الله.. وفي النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة)[40].
(الديمقراطية تصدر عن فكرة أن الشعب سيد نفسه ليحكم نفسه بالمنهج الذي يراه مناسباً، وهذا مغاير للإسلام رأساً؛ لأنه قائم على التسليم لله وحده بسلطة التشريع)[41].
(السيادة في الديمقراطية الغربية تعني أن إرادة الشعب هي العليا، وأنها في أمور السياسة والحكم والتشريع تبرم ما تشاء وتنتقض ما تشاء، لا يحدها في ذلك حد.. أما السيادة في الفكر السياسي الإسلامي فإنها محدودة من جانب واحد ومطلقة من الجانب الآخر، ففي الجانب الأول يحدها القرآن والسنة اللذان يعتبران من القواعد فوق الدستورية التي تلتزم السلطة التأسيسية باحترامها حين تضع الدستور)[42].
في (حين أن الحكام في الديمقراطية الغربية بإمكانهم أن يفعلوا باسم الأمة ما يشاؤون؛ لأن إرادة الأمة لا تعلوها إرادة)[43].
2- أن سلطة الأمة السياسية في الفكر الإسلامي تعمل في إطار الأحكام الإسلامية ولا اعتبار لها فيما خالف ذلك: (فالمبدأ الإسلامي يعمل في إطار الأحكام الإسلامية التي وردت بها النصوص الصحيحة الصريحة وما أجمعت عليه الأمة بحيث لا تتعارض مع ما يمكن أن يطلق عليه النظام العام للإسلام، ولو تعارض فهو مجرد رأي مبدد الأثر جملة وتفصيلاً)[44].
(ومن ثم، فاجتهاد المسلمين إنما هو داخل هذه المقاييس، ولكن الديمقراطية تترك للبشر حرية وضع هذه المقاييس)[45].
بخلاف سلطة الأمة في الفكر الغربي، فإنها سلطة مطلقة لا يحدها شيء من خارجها: (فإذا كانت سلطة الأمة لا تملك الخروج عن هذه النصوص ولا التعديل أو التبديل فيها ولا الزيادة أو النقصان منها ولا نسخها؛ فإنها بذلك تختلف اختلافاً جوهرياً عن سلطة الأمة في الديمقراطيات الغربية، فسلطة الأمة في هذه الديمقراطيات مطلقة، فالقرارات التي يصدرها المجلس الممثل لها تصبح قانوناً واجب النفاذ وتجب له الطاعة حتى إن جاءت مخالفة للقانون الأخلاقي أو متعارضة مع المصالح الإنسانية العليا)[46].
(منطلق الأساس الفكري لمصطلح الديمقراطية يعطي أفراد المجتمع السياسي سلطات شبه مطلقة في رسم مناهج حياة الشعب في مدلولها الاجتماعي بالصورة التي يرضونها وعلى الطريقة التي يرونها دون حدود أو قيود إلا حدود الدستور، وحتى هذا الأخير يكون قابلاً للتغيير والتعديل.. أما في ظل الأساس الشرعي لمصطلح الشورى، فإن الجماعة السياسية تكون مقيدة في ثبوتها وفي دلالتها بالكتاب والسنة بما يتلاءم مع متغيرات الزمان والمكان)[47].
وأقوال كثيرة عند المعاصرين تقرر هذا المعنى[48].
3- صلاحية التشريع في النظم السياسية المعاصرة تتسع لكل شيء لا يعارض الدستور، بل لها تعديل الدستور نفسه: (في الزمن المعاصر فإن السلطة التشريعية بإمكانها أن تشرع ما تشاء من الأحكام فيما لا يتعارض مع الدستور، بل هي تملك عادة هذا التعديل في مواد الدستور طبقاً لإجراءات معينة، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر أن الهيئة التأسيسية في الأمة لها الحق في أن تضمّن الدستور ما تشاء من الأحكام، ومعنى هذا أن الدستور ذاته عرضة للتعديل جزئياً أثناء الحياة النيابية وكلياً عندما ترغب الأمة في إيقاف العمل بالدستور ليحل محله دستور جديد.
وفي المقابل فإن القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية إذا صح التعبير، وكذلك السنة النبوية الصحيحة؛ كلاهما ثابت لا تغيير فيهما ولا تبديل)[49].
(ولكنه ليس كالنظام الديمقراطي الحديث في أن الشعب يملك التشريع وتعديل النظام كيف يشاء)[50].
(أما سلطة البرلمان فهي مشرعة الأبواب، فمن حقها التشريع المطلق في كافة المجالات، وكل نظام فهو قابل للتغيير والتبديل)[51].
(أما سلطات المجلس النيابي في الديمقراطية المعاصرة فمطلقة، وإذا كان الدستور يقيدها، فإن الدستور نفسه قابل للتغيير، ولذلك يقال إن الأمة مصدر السلطات في الديمقراطية المعاصرة على الإطلاق، ولكن في الدولة الإسلامية فمصدر السلطات الكتاب والسنة النبوية، أي أن مصدر السلطة هو الشريعة الإسلامية، وإذا قلنا إن الأمة الإسلامية مصدر السلطات فنضيف إلى ذلك أنها مقيدة بنصوص الشريعة)[52]. وأقوال أخرى كثيرة[53].
4- أن الدولة في الفكر الغربي تنشأ أولاً ثم تضع ما تشاء من القوانين، وأما في الفكر الإسلامي فهي إنما نشأت طبقاً لمبادئ القانون الإسلامي، (فالدولة تنشأ أولاً ثم يدور البحث في تكييف ما يلائمها، أما الدولة في الإسلام فإنها نشأت طبقاً لمبادئ القانون الإسلامي)[54].
(المفهوم الإسلامي يخالف الديمقراطية في أساس وجودها، فالتشريع في الإسلام سابق على الأمة وعلى الدولة، وهو يحكمها بتشريعه الإلهي ولا تحكمه هي بتشريعها الوضعي)[55].
لهذا فسيادة الأمة في الفكر الغربي قائمة على تهميش الدين، بخلاف السيادة في الإسلام:
(تقوم الديمقراطية أساساً على مبدأ فصل الدين عن المجتمع، وولادتها جاءت بعد مفارقة الدين)[56].
(كما أن هذه الديمقراطية تسعى لحكم الدنيا بقوانين وضعية على خلاف شرع الله، بمعنى أنها تسعى لتعديل حكم الله، أما نظام الحكم في الدولة الإسلامية فيسعى لحفظ الدين ونشره وحمايته وحكم الدنيا به)[57].
فـ (معيار الصواب في ظل هذه الشرعية يتمثل في مدى تعبير المشرع عن إرادة الأمة ومدى تلبيته لأهوائها ورغائبها ومدى خضوعه لقاعدة دستورية القوانين)[58].
الخلاصة:
هذه الاتجاهات والمواقف ترسم لنا معالم رؤية واضحة في فهم وإدراك (السيادة)، وأن عامة المؤلفين في الفكر السياسي الإسلامي كانوا يسيرون على جادة بيّنة ومتماسكة في التمييز بين السيادة في الفكر الغربي والفكر الإسلامي، غير أن ضغط المفاهيم الغربية قد شتت الرؤية عند بعض الإسلاميين، وأربك خطواتهم، فأصبحت تسير في طرق متناقضة، تسير على جادة الفكر الإسلامي حيناً، وتأخذ من الفكر العَلماني شيئاً آخر، وهي قصة سنرسم ملامحها ونحكي تفاصيلها في المقالة القادمة بإذن الله.
:: مجلة البيان العدد 303 ذو القعدة 1433هـ،سبتمبر 2012م.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: تاريخ الفكر السياسي لجان توشار 232 و236، تطور الفكر السياسي لجورج سباين 3/556، وتاريخ الفكر السياسي لجان جاك شوفالييه 1/289.
[2] انظر: تطور الفكر السياسي لجورج سباين 3/549، مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي 171-172، والدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم 122-123.
[3] انظر: مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي 171 وما بعدها، أصول نظام الحكم في الإسلام لفؤاد عبد المنعم 115، والدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم.
[4] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم 288.
[5] فقه الشورى والاستشارة لتوفيق الشاوي 574.
[6] انظر مثلاً:
أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، 19 و34 و37؛ أحمد محمد أمين، الدولة الإسلامية والمبادئ الدستورية الحديثة، ص 32؛ وهبة الزحيلي، نظام الإسلام، 188؛ محمد العربي، دولة الرسول في المدينة، 365؛ صلاح الصاوي، نظرية السيادة، 68؛ عبد الكريم عثمان، النظام السياسي في الإسلام، 118-119؛ أبو المعاطي أبو الفتوح، حتمية الحل الإسلامي، 65-66؛ ضوء مفتاح غمق، السلطة التشريعية في نظام الحكم الإسلامي والنظم المعاصرة، 33؛ رائف النعيم، الشورى، 24؛ يعقوب المليجي، مبدأ الشورى، 183-184؛ محمد مفتي وسامي الوكيل، السيادة وثبات الأحكام، 32؛ إبراهيم محمد زين، السلطة في فكر المسلمين، 31؛ محمد فاروق النبهان، نظام الحكم في الإسلام، 166؛ يحيى السيد الصباحي، النظام الرئاسي الأمريكي والخلافة الإسلامية، 534؛ أحمد الحصري، الدولة وسياسة الحكم، 126؛ منظور الدين أحمد، النظريات السياسية الإسلامية في العصر الحديث، 51؛ سميح عاطف الزين، لمن الحكم؟ 164؛ إسماعيل الكيلاني، لماذا يزيفون التاريخ ويعبثون بحقائقه؟ 272؛ هشام أحمد عوض جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، 127؛ صالح حسن سميع، أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، 189؛ علي محمد حسنين، رقابة الأمة على الحكام، 48-49؛ جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر؛ عارف أبو عيد، السيادة في الإسلام، 168؛ د. علي يوسف الشكري، النظام الدستوري في الشريعة الإسلامية، ص 31؛ عبد الحميد الأنصاري, الشورى وأثرها في الديمقراطية، ص 427؛ محمد رأفت عثمان، رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، 387؛ محمد سلام مدكور، معالم الدولة الإسلامية، ص 95؛ توفيق الشاوي، فقه الشورى والاستشارة، 574.
[7] انظر: محمد كامل ليلة، النظم السياسية 205، سعد محمد خليل، تولية رئيس الدولة في الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي الحديث 24، محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية 176، عبد الغني بسيوني، النظم السياسية 58-59، محمود حلمي، نظام الحكم الإسلامي مقارناً بنظم الحكم المعاصرة 40، عبد الكريم زيدان، الفرد والدولة في الإسلام 28، محمد يوسف موسى، نظام الحكم ص 77، ومحمد معروف الدواليبي، الدولة والسلطة في الإسلام ص 43.
[8] انظر: النظريات السياسية الإسلامية لمحمد ضياء الدين الريس؛ نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين لمحمد حمد الصمد 234.
[9] البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث لأحمد فؤاد عبد الجواد 347.
[10] انظر: السيادة في الإسلام لعارف أبو عيد 168، الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة لجمال المراكبي 417، مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة لعبد الجليل محمد علي 224، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام أحمد عوض جعفر134، وأسس العلوم السياسية في ضوء العلوم الشرعية لتوفيق الرصاص 37.
[11] نظرية السيادة لصلاح الصاوي 67.
[12] سيادة الشريعة الإسلامية في مصر لتوفيق الشاوي 84.
[13] البيعة في الفكر السياسي الإسلامي لمحمود الخالدي 109.
[14] مناهج الحكم والقيادة في الإسلام لأنور الجندي 27.
[15] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم 313.
[16] الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة لتوفيق الواعي 61-62.
[17] تأصيل وتنظيم السلطة في التشريعات الوضعية والشريعة الإسلامية لعدي زيد الكيلاني 145.
[18] الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي لمنير البياتي 463.
[19] الفرد والدولة في الإسلام لعبد الكريم زيدان 26.
[20] خصائص التشريع الإسلامي لفتحي الدريني 428.
[21] الإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة 99.
[22] نظام الحكم في الإسلام لمنصور الرفاعي عبيد 69.
[23] النظام الدستوري في الإسلام لمصطفى كمال وصفي 70.
[24] الشورى في ظل نظام حكم إسلامي لعبد الرحمن عبد الخالق 82-83.
[25] اهل الحل والعقد في نظام الحكم الإسلامي لعبد الله الطريقي 378.
[26] دستور الحكم والسلطة في القرآن والشرائع لرفيق شنبور 21.
[27] الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام جعفر 204.
[28] إرادة الأمة في الفكر السياسي الإسلامي لفضل الله محمد سلطح 120.
[29] أسس العلوم السياسية في ضوء الشريعة الإسلامية لتوفيق الرصاص 37.
[30] أهداف ومجالات السلطة في الدولة الإسلامية لفوزي طايل 299.
[31] معالم النظام السياسي في الإسلام لمحمد الشحات الجندي 150.
[32] نظام الحكم الإسلامي مقارناً بالنظم المعاصرة لمحمود حلمي 40.
[33] الدين والدولة في الإسلام للسنهوري 94 بواسطة كتاب الإسلام والسياسة لمحمد عمارة.
[34] مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة لعبد الجليل محمد علي 224.
[35] شرعية السلطة في الإسلام لعادل فتحي ثابت 294.
[36] من أصول الفكر السياسي الإسلامي لمحمد فتحي عثمان 419.
[37] قاعدة الشورى في مجتمع معاصر لأحمد أبو شنب 74.
[38] الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية لرحيل غرايبة 442.
[39] الحرية أو الطوفان لحاكم المطيري 67.
[40] نظرية السيادة لصلاح الصاوي 74.
[41] القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد الله الكيلاني 79.
[42] الشورى والديمقراطية لعلي لاغا 129.
[43] نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين لحمد محمد الصمد 234.
[44] الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية لحسن صبحي 241.
[45] الحكومة والدولة في الإسلام لأحمد شلبي 56.
[46] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم 319.
[47] مبدأ الشورى قواعده وضماناته لنزار عتيق 92.
[48] انظر: الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة لجمال المراكبي 417، نظام الحكم في الإسلام بين النظريات والتطبيق لأحمد عبد الله مفتاح 432، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية لهشام جعفر 131، المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصر لمشير المصري 85، مبدأ الشورى قواعده وضماناته لنزار عتيق 92، والمشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصر لمشير المصري 85.
[49] الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية لحسن صبحي 296.
[50] النظام الدستوري في الإسلام لمصطفى كمال وصفي 14.
[51] أهل الحل والعقد صفاتهم ووظائفهم لعبد الله الطريقي 159-160.
[52] نظرية الخلافة في العصر الحديث لإسماعيل محمد عيسى شاهين (رسالة دكتوراه) ص 260.
[53] انظر: النظم الإسلامية والمذاهب المعاصرة لحسن عويضة 227-228، القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد الله الكيلاني 76-77، في فقه السياسة لإسماعيل الخطيب 139، والخلافة والخلفاء الراشدون لسالم البهنساوي 63.
[54] معالم الدولة الإسلامية لمحمد سلام مدكور 121.
[55] القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام لعبد الله الكيلاني 76.
[56] في فقه السياسة لإسماعيل الخطيب 139.
[57] الدولة ونظام الحكم في الإسلام لحسن السيد بسيوني 102.
[58] نظرية السيادة لصلاح الصاوي 79.